1. تقديم:
إنّ بØØ« الغنائيْة هو مغامرةٌ بØدّ ذاتها، لأنّ مثل هذا البØØ« يستلزم العبورَ ÙÙŠ مسار٠طويل٠ومتشعّب٠يقودنا، رأساً، إلى غمار التجربة الجاهلية الّتي يتوقّ٠عليها Ùهْم٠خصوصيّات الشعر العربي، والقضايا النوعيّة التي ارتبطت به، إنتاجاً وتلقّياً.
http://aljasra.org/archive/cms/?p=556
واليوم، Ù†Ùهم لماذا Ù†ÙعÙت الشعر العربي بأنّه “شعر غنائيّâ€ØŒ ولاسيّما من المستشرقين المتأثّرين بالإرث الأرسطي )=نسبة إلى أرسطو طاليس(ØŒ أو بالأØرى بالثلاثيّة اليونانية المنسوبة إلى أرسطو)ملØمي، تراجيدي، غنائي(. وإذا كان ذلك اكْتÙشاÙاً ÙÙŠ سياق اهتمامهم ب “الآخر الشعريâ€ØŒ إلّا أنّه سرعان ما Ø£ØµØ¨Ø Øجاباً ÙŠÙغطّي أكثر ممّا يكشÙØŒ بعدما صار ÙŠÙقْصد بâ€Ø§Ù„غنائي†ـ الّذي لم يرÙدْ ذكره ÙÙŠ كتب القدماء من نقّاد وبلاغيّين Ù€ البعد العاطÙÙŠ أو الوجداني الصرÙØŒ Øتّى غدت كلّ قصيدة رومانسيّة أو وجدانية غارقة ÙÙŠ “السنتيمنتاليّة†أو عاطÙية تØاكي الموسيقي وتسعي إلى الطرب والتطريب قصيدةً غنائيّةً، وليس بتلك الّتي يمكن أن تتجاوز ذلك إلى أوضاع شعريّة ØªØªØ£Ø±Ø¬Ø Ø¨ÙŠÙ† “المطلق†وâ€Ø§Ù„ملØمي†كما تÙرشدنا إلى ذلك قصائد من الشعر القديم والØديث على السواء. وقد أشاع مثل هذا الÙهم الخاطئ والمضلÙّل، Ùيما بعد، الجهلة بعلم الشعر، وكتبة قصيدة النثر العربية المجاهرون بعدائهم الشديد للغنائية، الذين يرون Ùيها عودة إلى الوراء وكÙÙراً بالتقدم الذي Øقّقته الØداثة، لأنّها Ù€ ÙÙŠ نظرهم Ù€ )Ù…Ùرطة ÙÙŠ الموسيقيّة) Ùˆ(ذاتية) Ùˆ(Øماسية) أو(جياشة المشاعر)!
من هنا، ورÙْعاً لكثير اللّبس وليس اللّبْس كلّه، Ù†Ùعيد إدماج موضوع الغنائيّة ÙÙŠ إشكاليْة جديدة تضيء الوضعيّة الإبستيمولوجيّة لها من Øيث Ù…Ùهومها ومØدّداتها، سعياً وراء نمذجتها أو، بالأØرى، Ù…Øاولة نمذجتها.
2. إستشكال الغنائيّة:
Ù†ÙقارÙب الغنائيّة كخطاب شعريّ تتØدّد بنياتÙÙ‡ ÙˆÙÙ‚ المبدإ الأنواعي الّذي ينتظمها، Ù…ÙØترسين من أن Ù†Ùماثل الغنائية بالشعر أو بالقصيدة تØديداً، بعدما كان ÙŠÙ„ÙˆØ Ø¯Ø§Ø¦Ù…Ø§Ù‹ أنّ القصيدة الغنائية تختصر الشعر بأسره، أو هي تسميته الأخرى، بسبب٠من عراقته ÙÙŠ الإمبراطوريّات الشعرية الباذخة، ومن هيمنته ÙÙŠ جميع الثقاÙات الشÙوية والمكتوبة، ثمّ من عودته المظÙّرة داخل التأويل الرومانسي بعد أن صار “هو الشعر الأكثر سموّاً وتميÙّزاً عن غيره†ÙÙŠ تعري٠سْتÙوارْتْ ميلْ 1. وما زلنا نرى Ù€ منذ ما يزيد عن قرن Ù€ أنّ هذا الشعر †الأكثر سموّاً وتميÙّزاً†هو، تØديداً، نمط الشعر الذي ألغاه أرسطو من كتابه “Ùنّ الشعرâ€. بالنتيجة، كان سؤال الإشكالية: ما هي القصيدة الغنائية؟ ÙŠØلّ Ù…Øلّ السؤال: ما هو الشعر؟
إنّ Ù…Ùهوم الغنائية ÙÙŠ الشّعر، شأنه شأن المÙاهيم الأكثر شيوعاً واستخداماً، يكتنÙÙ‡ اللّبس والغموض، وقد وجدنا كم كانت “تتضارب الآراء ÙÙŠ تلقّي الشعر الغنائي من Øيث خصيصته النوعية ووضعه تجاه باقي أنواع القول الشعري والبليغ عامةâ€2ØŒ Ùمنهما ما أعرض عن Ù…Øاولات تعريÙها أو تØديد طبيعتها العامة، لأنّ ذلك لن يجلب إلّا تعميمات تزيد الإشكالية تعقيداً، ومنها ما كان يسعى إلى تعريÙها عبر عرض الخصائص الأخرى التي لا تمتّ إليها بصلة، كما ÙÙŠ رأي نورثروب Ùراي، مثلما لا ننسى Ùرضيّة سابير Ù€ هور٠المثيرة للنّظر: قد نضطرّ إلى إهمال بعض أبعاد الشعر الغنائي، لأننا ببساطة لا نملك Ù…Ùردات Øريّة بالخوض Ùيها؛ بل إنّ بعض المعاصرين ينظر إلى الغنائية على أنّها â€œÙ…ØµØ·Ù„Ø Ù…Ø³ØªÙ†Ùدâ€ØŒ أو ÙŠÙØµØ±Ù‘Ø Ø¨â€ Ø§Øتراق الغنائية†أو “أÙولـ†ها ÙÙŠ ظلّ صعود الشعر الدرامي.3
وتزداد وضعيّة الغنائية ÙÙŠ السياق العربي تعقيداً ØŒ وذلك لمّا تماهت الغنائيّة بالشعر، وهو ما Ø£Ù„Ù…Ø Ø¥Ù„ÙŠÙ‡ جمال الدين بن الشيخ،الّذي خصّ الإنسكلوبيديا العالمية بمقالة لمّاØØ© Øول )الغنائيّة العربية(ØŒ بقوله: “إلى Øدود القرن العشرين للميلاد، ظلّ الأدب العربي ينْتسÙب٠ÙÙŠ جوهره للشّعر، ويلتبس تطوÙّر الغنائيّة مع تاريخ الشّعر، تلك الّتي تجدها تعبيرها الأكثر تمثيلاً ÙÙŠ القصيدة “.4
تÙرض مثل هذه الاعتبارات جملةً من الأسئلة ÙÙŠ سياق بØØ« الغنائية، من مثل:
Ù€ هل يمكن بØØ« “المسألة الأنواعية†للغنائية ÙÙŠ الشعر دون تØديد Ù…Ùهوم النوع الغنائي؟
Ù€ هل يمكن القول بâ€Ø£Ù†ÙˆØ§Ø¹ÙŠÙ‘Ø© العنائية†دون إدراك٠لغيْرها من أنواع الأدب داخل الثلاثية اليونانية المأثورة عن أرسطو؟ ثمّ داخل القسمة العربية التقليدية: شعر ونثر؟
Ù€ إلى أيّ Øدّ نتقدّم ÙÙŠ البØØ« من غير أن نستدعي خصائص الغنائية ومقوÙّمات تكوين نسقها الدّاخلي، من مثل البناء والإيقاع والنظام التلÙّظي والنÙسي والتيمات، ومن ثَمّ أن نستوعب البنيات النصّية الجامعة للغنائيّة، والمميÙّزة لها عن غيرها؟
Ù€ كي٠تتمظهر الغنائية ÙÙŠ شعرنا العربي، ÙÙŠ ضوء التØÙˆÙّلات التي طالت القصيدة وأطرها الÙنّية؟
Ù€ كي٠نتلقّى نصوصاً من الشعر العربي الØديث والمعاصر لا تÙعلن عن Ù†Ùسها بسهولة؟
Ù€ ألا يستوجب وضع المÙهوم تعيين نمذجة أنواعيّة قادرة على تمثÙّل واستيعاب اختلا٠النصوص الشعرية وتعدّدها؟
نثير هذه الأسئلة بغرض الوعي بالوضعيّة الإبستيمولوجية للغنائية، خارج أيّ ادÙّعاء بالتبسيط والاستسهال. وإذا ليس بوسعنا، ÙÙŠ هذا المكان، أن نخوض ÙÙŠ هذه الأسئلة المستشكÙلة لموضوع الغنائية، Ùإنّنا Ù†Ø³Ù†Ø Ø§Ù„Ùرصة للملمة بعض القضايا المنهجيّة والمعرÙية الّتي نرى أنّ لها أولويّةً ولما ÙÙŠ اعتبار من أجل المساهمة ÙÙŠ تØديد Ù…Ùهوم الغنائية وخواصّها ومقوّمات بنائها الداخلي.
1.2. الغنائيّ والغنائيَّة
لا نعثر على ذكْر٠للغنائية كغرض أو نوْع ÙÙŠ تصنيÙات القدماء ÙÙŠ الشعر العربي، إلّا ما يتّصل بالغناء ÙÙŠ Øالة إنشاد القصيدة كما هو مأثورٌ عن الشاعر Øسان بن ثابت ÙÙŠ قوله:
تَغنَّ بالشعر٠إمـَّا كنتَ قائلـَه٠** إنَّ الغناءَ لهذا الشعر ٠مضمارÙ
ما دام أنّ تصوّر هؤلاء لم ينْبَن٠على مقولة الأنواع أكثر ممّا قام على مقولات٠أغراضيّة وعروضيّة. لقد انتسبتْ مقولة “الغنائي†إلى الثلاثية اليونانية)ملØمي، تراجيدي، غنائي(ØŒ Øتّى وإن كان أرسطو Ù†Ùسه لم يدمجْها ÙÙŠ استراتيجيّة بنائه للأنواع التي بدتْ له مائزةً ÙÙŠ عصره كالمأساة والملهاة والملØمة. لذلك، يظهر أنّ تاريخ تداول “الغنائيّة†وâ€Ø§Ù„نوع الغنائي†ÙÙŠ الشعر بدأ Ùعليّاً مع الإرث ما بعد الأرسطي، واتّسع مع صعود الرومانسية بأوربا، ولا سيّما ÙÙŠ ألمانيا ÙˆÙرنسا.
ÙÙŠ تعدÙّد التÙسيرات المختلÙØ© للثÙّلاثية لمْ ÙŠÙÙْض٠الأمر إلى تØديد٠واضØ٠ودقيق للشعر الغنائي الّذي ظلّ ÙŠÙعر٠بتØديد٠موضوعيÙÙ‘ هو، غالباً، ترجمة للأØاسيس والعواطÙØŒ ولم تÙØدَّد له Ù€ عكس الملØمة والدراما، صيغة خاصّة أكثر منها عائمة وسلبية)= كلّ ما ليس سرديّاً أو دراميّاً(. ويلتبس الÙهم أكثر ÙÙŠ ثقاÙتنا الشعرية لمّا Ø£Ùعيد تداول وإنتاج المقولة بصيَغ٠ÙضÙاضة ومتعدّدة لدى العديد من الشعراء ونقّاد الشعر، بدءاً من الاتّجاهات المØسوبة على المذهب الرومانسي، Øيث تمّ مماثلة الغنائيّ بمقولات الوجداني والذاتي والعاطÙÙŠ.
ÙˆÙÙŠ ظلّ تطوÙّر الدراسات الØديثة داخل نظريّات الأنواع الأدبية وتØليل الخطاب والشعريّة، أنجزها نقّادٌ أوربيّون)جيرار جينيت، تزÙيتان تودوروÙØŒ كيت هامبورغر، جان ماري شيÙر،إلخ(ØŒ Ø·ÙرØت تصوّرات مغايرة ومتقدّمة أعادت قراءة الغنائية، Ùبدل أن ÙŠÙستبدل التقسيم الثلاثي)الملØمي Ù€ الدرامي Ù€ الغنائي( بالتعارض القديم بين الشعري والنثري، ÙŠÙÙضي الأمر اختزالاً إلى تقسيم٠ثÙنائي: Ù…Øاكاة وتخييل، على أساس السّردي. هكذا ÙŠÙرجع الغنائي، Ø§Ù„Ù…ØµØ·Ù„Ø Ø§Ù„Ø«Ø§Ù„Ø« من الثلاثية، إلى مقولة النوع “غير التخييلي†الّذي يتØدّد بأنّ †أنا Ù€ الأصل†Ùيه هو الشاعر Ù†Ùسه، ذلك الذي يتكلّم ÙÙŠ خطابه بâ€Ù…Ù„Ùوظ٠واقعيّ†لا بâ€Ù…Ù„Ùوظ تخييليâ€Ø› وبالنتيجة، ÙŠÙرجع الأنا الغنائي إلى التلÙّظ التاريخي أو المرجعي. ويستتبع ذلك تØليل طرائق بناء الملÙوظ ÙÙŠ ضوء الخيارات الأسلوبية والجمالية الّتي تØتمي بها الذّات ÙÙŠ تنظيم دوالّ القصيدة وقيمها المهيمنة الخاصّة بإنتاج خطابها الشعري، وهو ما يقودنا إلى اعتبار مقولة الغنائيّ تتوكّأ عليها التجربة الجمالية، ولا تسهم إلّا بالØدّ الذي ÙŠÙØدّد هويَّة النص. Ùكما أنّ تصوÙّر “الدرامي†يÙسهم، بديهيّاً، ÙÙŠ التعرÙّ٠على العمل كمسرØية، يكون “الغنائي†هو الوظيÙØ© المهيمنة ÙÙŠ الشعر.
2 .2 . السّمات العامة للغنائية:
من هنا، وبمنأى عن كلّ وثوقيَّة، نصدر عن Ùَهْم٠يرى إلى النوع الغنائي من خلال السّمات التي ينشأ عنها مثل باقي الأنواع، ويمكن للقارئ أن ÙŠØدسها وإن كان يجد صعوبةً ÙÙŠ تبرير تصوÙّره، لكنّ القول بأن هذا العمل “درامي†أو “ملØمي†أو “غنائي†يتجاوز كثيراً ميدان القراءة المباشرة، ويÙقيم ÙÙŠ ذاته الÙعل النقدي المستند على المعار٠التاريخية والنظرية. هذه السمات الّتي تÙجْمل Ù€ بهذه الدرجة أو تلك Ù€ النوع الغنائي، أو بالأØرى القصيدة الغنائية، هي:
أوّلاً Ù€ أنْ تأتي القصيدة ÙÙŠ العموم قصيرةً وموجزةً وبالغة الكثاÙØ©ØŒ لكنّها قد تزيد على ذلك إذا رأى الشاعر Ùيه بلورةً لصوته الإنشادي وموقÙÙ‡ الغنائي داخل القصيدة ومعماريّتها العامة.
ثانياً Ù€ أنْ تعبّر عن “الأنا Ù€ الأصل†للشاعر الّذي يتكلّم بقدرما ÙŠÙÙØµØ Ø¹Ù† تجربته الداخلية، صوته الداخلي، عالمه الداخلي بكلّ ما ÙŠÙضّ عنه من Ø±ÙˆØ Ø¬ÙŠÙ‘Ø§Ø´Ø© ÙÙŠ التعبير.
ثالثاً Ù€ أنّ تتØرّك ÙÙŠ سياق نوعيّ ومتنوÙّع من التيمات والرؤى المنتجة للمعنى الشعري، التي تستدخلها أنا الشاعر)الØبّ، الرثاء، الإشراق الصوÙÙŠØŒ سخاء الطبيعة، مجالس اللّذة والشراب،إلخ(.
رابعاً Ù€ أن تنقل مجمل القيم الخاصّة بإنتاج “كوْن٠دلاليÙّ†يÙØªØ Ø§Ù„Ø£Ù†Ø§ الغنائي على الأشياء والعالم، Ùلا تÙقيم Ùصلاً بين الداخل والخارج، الذّات والآخر، المØسوس والمجرَّد ÙÙŠ مزيج٠خلّاق٠يخلق ÙˆØدة الموضوع، ووØدة البناء، ووØدة الانطباع المتأتّاة من ذلك جميعاً.
خامساً – أن تكون Ø´ÙّاÙةً وعالية التركيز ÙÙŠ تدبير نسقها الدّاخلي، لأنّ القصيدة الغنائية تبقى قريبة من الغناء، ومن Ø´ÙاÙيّة الغناء بالنّظر إلى نوعيّة بنائها المعماري ككلّ.
سادساً Ù€ أن يأخذ Ùيها الإيقاع وضع “الدالّ الأكبرâ€ØŒ لأنّه ينظّم معنى الذّات ÙÙŠ خطابها، ويÙنْقذ البناء النصّي من التبعثÙر والتÙÙƒÙّك عبر آليّات التكرار والتقÙية والتوازي والهندسة الصوتية وتذويت الدّلالة.
سابعاً Ù€ أن تتخÙّ٠من “الملÙوظ التمثيليâ€ØŒ ومن السّردي الّذي قد ÙŠÙشيع Ø§Ù„Ø±ÙˆØ Ø§Ù„Ø¯Ø±Ø§Ù…ÙŠÙ‘Ø© داخل النصّ، وإن كان ذلك لا يمنع أن تهجر نقاءَها الأنواعي، Ùتستثمر “الملØمي†ÙÙŠ علاقتها بالتاريخ والأسطورة والرمز. ولقد رأينا قصائد كثيرة Øملت دلالات٠وأبعاد٠غنائيّة جديدة ضمن سياق النص الشعري العربي الØديث وثقاÙته الجديدة.
إنّ هذه السمات استدلاليّة مشتركة بين نصوص “الغنائيّة†ÙÙŠ الشعر، وإذا كانت تمثÙّل Øدّاً معقولاً من تمثيليّتها ونجاعتها، Ùهي مع ذلك لا تزعم الإلمام بها، بالنّظر إلى اختلا٠تقاليد الكتابة والأسلوب، إذ لكلّ شاعر Øقيقيّ أسلوبه، أي عالمه الخاصّ.
تتجاوز الإشكالية المستوى الأنواعي الكلاسيكي المتمثّل ÙÙŠ المقارنة بين الشعر والنثر، وتصني٠الشعر ضمن تصنيÙات الأدب، إلى مساءلة النسق الأنواعي الداخلي للغنائيَّة ذاتها، ما دÙمْنا نعتبر النوع الغنائي ليس سلطة معياريّة قبلية ولا Ù€ تاريخيّة متعالية على الزمن، لأنّ النوع ذاته نسق داخليّ متØوّل لا يوجد إلّا من خلال النصوص التي تعْبÙرها وتÙعبّر عنها الذّات ÙÙŠ تنظيم معناها داخل الخطاب.
3.الغنائيّة بوصÙها خطاباً:
إنّ استشكال الغنائيَّة، وتبعاً للمÙاهيم والمقولات المØدّدة له، يدعونا إلى تبنّي Ù…Ùهوم الخطاب لنقرأ به أشكال الطرائق الّتي تسند تدبير المبدأ الأنواعي الأنواعي للغنائية ÙÙŠ الشعر. إنّ الخطاب، هنا، استراتيجية. من جهة٠أولى، يجعل الخطاب٠نصَّ الغنائية Ù…Ùنْدرجاً ÙÙŠ نسق أكبر منه وهو النوع الأدبيّ بالقياس إلى التزام النصّ بقواعده والسمات المكوÙّنة له، ومن جهة أخرى، ÙŠÙØيلنا الخطاب على سياقه التلÙÙّظي المÙرد باعتباره Ù…ÙتوØاً على وضعيّات التواصل ومقاصد التلقّي والتأويل. إلى ذلك، علينا أن Ù†Ùراعي بنية الخطاب ÙÙŠ الشعر تØديداً، التي تØمل ÙÙŠ ذاتها Ù€ بما هي مكوÙّن دلاليّ Ù€ عناصر تكرارها أو عناصر انØلالها وزوالها. Ùعناصر التكرار تÙدْرك من خلال ما بين أجزاء البنية الدلالية من علاقات ارتباطية يقتضيها منطق النصّ، ويستدعيها أيضاً مبدأ الانسجام ليس باعتباره من مبادئ النصّ المنجز، بل هو من مبادئ الخطاب لمقايسة شعريّة النص من عدمها.
إنّنا لمّا ننظر إلى الغنائية بوصÙها خطاباً، ÙŠÙراد منّا أن نبØØ« ÙÙŠ بنْيته التي توجÙّهها البنيات النصّية. وإذا كان التزام النصوص الشعرية ببنيات النوع الغنائي ليس التزاماً كلّياً ولا زمنيّاً، Ùإنّه ÙŠØدث أن تخرج النصوص، أو تØاول أن تخرج، عن مقتضياته جزئيّاً أو شبه كلّي، بØسب أنساق الكتابة وشروط إنتاجها وتلقّيها، كما هو الØال ÙÙŠ الخروج على المقدّمات الطللية، أو ÙÙŠ الخروج على النمط الأصلي للبيت الشعري، أو ÙÙŠ خروج تنويعات الأسلوب الشعري على التئام الذّات وأØاديّة الشكل الكتابي. ويجدر بنا هنا، أن نعي بأنّ اشتغال الغنائية أكثر من وظيÙتها لا يتØدّد إلّا داخل خطابها الخاصّ، أي جميع القيم والخصائص المهيمنة الخاصّة بها، وهي:
1.3. الذّات:
تÙشكّل الذَّات عصب الغنائية ÙˆØاÙز انبنائها داخليّاً، وقد شاع ÙÙŠ نظريّة الأنواع الأدبية أنّ الشعر الغنائي هو شخصية الشاعر Ù†Ùسها، أو هو الأثر الأدبي الذي يتكلم Ùيه الشاعر بمÙرده، ولذلك Ùإنّ الذي يتكلم ÙÙŠ الشعر الغنائي إنّما هو الشاعر وأناه الأصلية الّتي ترتبط ب “ملÙوظ٠واقعيÙÙ‘â€. Ùإذا كان كلّ ملÙوظ٠“واقعيّاً†على Ù†ØÙˆ خاصّ، Ùإنّ “واقع†الملÙوظ ينشدّ إلى تلÙÙّظه من خلال الذّات الØقيقية والأصلية. هذا ما تÙÙيدنا به نظرية التلÙّظ. يكتب كيت هامبورغر: †إنّ اللغة الإبداعية التي تÙنْتج القصيدة الغنائية تنتمي إلى نظام اللغة التلÙÙّظي، وهو السبب الرئيسي والبنيوي الّذي من خلاله نتلقّى القصيدة باعتبارها نصّاً أدبيّاً، أكثر من كونها نصّاً تمثيليّاً، سرديّاً أو دراميّاً. نتلقّاها كملÙوظ٠لذات٠متلÙÙّظة. إنّ الأنا الغنائية، Øتّى وإن كان متنازَعاً Øولها، هي الذّات المتلÙÙّظةâ€. ÙˆÙÙŠ ما يخصّ الجدال Øول مطابقة الأنا الغنائية بالكاتب كشخص، يؤكّد هامبورغر أن ذلك لا يتمّ إلّا ÙÙŠ المستوى المنطقي بدون أن Ù†Øكم مسبقاً على أيّ علاقة بيوغراÙية أنّى كانت، وتضيÙ: “بطبيعة الØال، يمكن أن تكون التجربة تخييليّةً، بيد أنّ ذات التجربة Ù€ ومعها الذات المتلÙÙّظة والأنا الغنائية Ù€ لا يمكن أن تكون إلّا Øقيقيّةًâ€5. وهذا ما ذهب إليه أدورنو عندما اعتبر أنّ “من يتكلّم داخل الÙنّ هو ذاته الØقيقية، وليس الذّات التي تÙنْتجه أو تتلقّاهâ€6. ÙˆÙÙŠ عبورها من المØور اللّساني إلى الأدب، والشعر أساساً، تمتدّ الذات من استعمال عوامل التلÙÙّظ إلى الانتظام ÙÙŠ نسق الخطاب بأكمله. داخل الخطاب، ØªØµØ¨Ø Ø§Ù„Ø°Ø§Øª تاريخيّة اجتماعيّاً ÙˆÙرديّاً، ومن ثمّ تتمظهر الذّات المتلÙظة كعلاقة أو جدل بين الÙرديّ والجمعيّ.
إنّ الذات Ù…Ùهومٌ لسانيّ، أدبيّ وأنثروبولوجيّ، ولن تلتبس مع Ù…Ùهوم الÙرد الذي هو ثقاÙيّ وتاريخيّ يرجع إلى تواريخ التÙرّد. من هنا، يجب الØذر من الØدوس النظرية ÙÙŠ الشعر الّتي تÙØيّد اجتماعيّة الÙرد Ù€ الذات Ù€ المؤلÙØŒ Ùإصغاء الذات هو إصغاء للجمعي بقدرما هو إصغاء للتاريخ7.
وقد رأينا، عبر تاريخنا الشعري الذي يظهر ÙƒØديقة ملأى بالألغاز والأسرار Ù€ بتعبير المستشرق ريجيس بلاشير، كي٠أنّ الشاعر “يمنØنا ذاته ÙÙŠ إنسانيّته وبكلÙÙ‘ نقائصه، وهو ÙÙŠ ذلك ÙŠØرص على ألّا يسØقه المجتمع الذي يعيش Ùيهâ€8ØŒ لأنّ المجتمع يهاب٠أو يخشى من ذات الشاعر باعتباره ممثÙّلاً للÙرد ورمزاً له، Ùيما كان هو لا يخشى المجتمع الذي ما Ùتئ يسعى إلى سØقه: مثلاً، ينشغل زهير بن أبي سلمى ÙÙŠ معلَّقته بتأكيد Øاجة مجتمعه، لأسباب اقتصادية، إلى السلم الذي Ø±Ø§Ø ÙŠÙÙلسÙه، أو Øاجة عنترة العبسي إلى تأكيد ذاته وذوات كلّ العبيد ÙÙŠ مجتمع السادة الذي كان ÙŠØول بينه بين Øريّته، وإØساس طرÙØ© بن العبد بالمÙارقة الØادّة بين الØياة والموت ÙÙŠ بيئته الوثنية، وكي٠أنّ الشعراء الصعاليك بادروا إلى Ø§Ù„Ø³Ù„Ø§Ø ÙÙŠ وجه المجتمع الذي ÙŠÙمارس تغريباً ÙÙŠ الØياة على ذواتهم. كما رأينا، بعد ذلك بقرون، كي٠امتلك السياب والبياتي ومØمود درويش وأمل دنقل وعياً Øادّاً بالتاريخ الذي أعادوا صهره وصياغته ÙÙŠ Ø£ÙÙ‚ ابتعاث الذّات الجماعية من عجزها. إلّا أنّنا نرى، اليوم، ÙÙŠ شعرنا الراهن الذي ترÙده قصيدة النثر، نمطاً من الذاتيّة يخرج عن أنماطها السابقة، بØيث صارت الذاتيّة تتجسّد ÙÙŠ “الصوت الÙردي الØميم، والذات الصغيرة ÙÙŠ خوÙها ولا يقينيّتها وتردÙّدها، ÙˆÙÙŠ Ø£Øلامها الكسيرة وتشوÙÙ‘Ùها لعالم٠أكثر عذوبة ورأÙØ© وأقلّ هديرâ€9.
بهذا الاعتبار، Ùإنّ التمظهرات الخاصّة بالذّات والذّاتية التي تنتجها الأنا الغنائية وتبلورها داخل نظامها التلÙّظي، يجب أن تÙØلَّل بناءً على مبدأ نسق الخطاب كاشتغال للÙّغة يثوي Ùيه “بÙعْد الØياة†من لدن هؤلاء الذين يتكلمون. هكذا تبقى الغنائية الميدان المميَّز لعمل الذّات وتعبيريّتها، ÙÙŠ انØيازها للغناء كشرط لشÙاÙية التعبير ÙÙŠ الشعر، بمقدار ما أنّ †الرؤية الغنائية للعالم، أكانت عدوانية أو أخوية، تستمرّ على هذا النØÙˆ عن طريق السØر السامي للكلمةâ€10.
2.3. الإيقاع:
لقرون٠طويلة، استمرّ تعري٠الشعر الغنائي بأنّه “مجموع القصائد الشعرية التي تÙراÙقها القيثارةâ€ØŒ ومن ثمّ ارتبط هذا النّوع من الشعر، ÙÙŠ الوعي الثقاÙÙŠ والنقدي العامّ، بالموسيقى والغناء. Ù†ØÙ† بدورنا لا ننÙÙŠ القول إنّه †علينا أن نتذكّر أنّ الموسيقى، ÙÙŠ التØليل الأخير، هي جوهر الغنائيّةâ€ØŒ بتعبير ØµÙ„Ø§Ø Ùضل 11ØŒ لكن علينا أن ننظر إلى هذا الشعر داخل اشتغاله كنصّ لغويّ وجماليّ، لنÙدرك مركز الثّقل الذي للموسيقى، أو بالأØرى للإيقاع الّذي يتجاوز العروض، ونÙدرك خاصية الغنائيّة التي يأخذ Ùيها الإيقاع Ù†Ùسه وضع الدالّ العضوي والجوهري بالمعنييْن الÙكري والجمالي. وإذا كان الغنائية لا تزال Ù…ÙØاطةً بتاريخ٠من اللّبْس والغموض، Ùإنّ ذلك Ù€ ÙÙŠ تقديري Ù€ يأتي من اللّبْس الّذي شاع Øول الإيقاع، والعكس بالعكس.
هنا، يجب أن نميÙّز بين الإيقاع والعروض، Ùنعتبر الأول أوسع وأشمل للثّاني القابل للعدّ والقياس. Ùإذا كان العروض ÙŠÙسعÙنا ÙÙŠ ضبط البنية الوزنية للبيت الشعري، Ùإنّ ليس له ما ÙŠÙقدّمه ÙÙŠ تØليل إيقاع الخطاب باعتباره المجموع التركيبي لكلّ العناصر التي تÙسهم Ùيه، والتي تتمظهر ÙÙŠ كلّ مستويات اللغة الشعرية: العروضية، النّظمية والدلالية التي تÙØدّد دالّ الإيقاع وطبيعة اشتغاله داخل القصيدة الغنائية. ÙˆÙÙŠ هذا السياق، يرشدنا هنري ميشونيك إلى أنّ “الإيقاع بالغ الأهمية داخل اللÙّغة بدلاً من الزجÙÙ‘ به ÙÙŠ العروض، العروض الّذي يقيس الأزمنة التي ليست لأØد، لأنّها ليست لا زمن المعنى، ولا زمن الذاتâ€.12
لذلك، لا ÙŠÙعرَّ٠الإيقاع بوصÙÙ‡ وزنيّاً أو صوتيّاً أو نبريّاً ÙØسب، وإنّما يتعدّى ذلك إلى الخطاب بأكمله، Øيث يمكن أن يستند إلى الأبعاد الدلالية للنّظْم بمÙهومه البلاغي، وذلك تبعاً لـ “Øركة المعنى†وÙعاليّته ÙÙŠ تنظيم الذات داخل خطابها، المÙرد والمختلÙ. وهذا ما يجعلنا نعتقد أنّ الإيقاع دائماً ما شكّل مختبر المعاني والرؤى الجديدة التي لم تكÙÙŽÙ‘ الذّوات، من عصر إلى آخر، عن السعي إليها ÙÙŠ تواريخ تÙرÙّدها الخاصّة. هناك تاريخ لإيقاعات٠أو “عÙقَد٠إيقاعيّة†لكلّ من المتنبّي وابن زيدون والسياب ونازك الملائكة ومØمود درويش وأدونيس وسعدي يوس٠وقاسم Øداد، تمثيلاً لا Øصراً. Ùالإيقاع ليس عنصراً شكليّاً أو مستوى أو Øليةً أو Ù…ÙضاÙاً، بل هو مبدأ بان٠ودلاليّ يتشكّل عبر مسار إنتاج الغنائية لمعناها، مجهول معناها.
3.3. المعنى:
على مبدأ المØاكاة تمّ التمييز بين الغنائي والملØمي والدرامي. ÙˆÙÙŠ الصÙØØ© الأولى من كتاب أرسطو طاليس “Ùنّ الشعرâ€ØŒ نجد تØديداً واضØاً للشعر، Ùهو Ùنّ المØاكاة)وبصيغة أدقّ عن طريق الوزن واللغة والموسيقى(ØŒ مستثنىً منه ما أنتجه أَمْبÙيدÙوكْل من آتار٠كتابية تعرض بواسطة الأبيات)الموزونة( موضوعاً ÙÙŠ الطبّ أو ÙÙŠ الطبيعيات، بمعنى أنّ أرسطو يرÙض ما ÙŠÙسمّى بالشعر التعليمي، أي الشعر الّذي ÙŠÙقد شعريّته ÙÙŠ ما هو خارج الشعر13 .ولقد انتبه القسّ باتو Ùيما بعد إلى Øصر المØاكاة ÙÙŠ “مØاكاة الÙنون الجميلة†التي تخضع للمبدإ Ù†Ùسه، بما Ùيه الشعر الغنائي الّذي يتوزّع ÙÙŠ Ùنون صغرى متنوّعة ومشتقّة منه. وقال †إذ كلًّما تواصل الÙعل كان الشعر ملØميّاً أو دراميّاً، وإذا انقطع ÙˆØ£ØµØ¨Ø ÙŠØ±Ø³Ù… الØالة الوØيدة للرÙÙ‘ÙˆØ ÙˆØ¥Øساسها المجرَّد كان الشعر غنائيّاً: ويكÙÙŠ ÙÙŠ هذه الØالة أن نضÙÙŠ على الشعر الشّكْلَ الملائم Øتى يدخل ØÙŠÙّز النشيدâ€ØŒ معتبراً أنّ الشعر الغنائي يختل٠عن غيره من الأجناس الشعرية، ويتميّز عنها بخاصية واØدة: وهي موضوعه الخاصّ.Ùإذا كان موضوع تلك الأجناس يتمثّل أساساً ÙÙŠ الأÙعال، Ùإنّ الشعر الغنائي يختصّ بالأØاسيس، Ùهي مادّته وموضوعه الأساسي14.
وقد تكون هذه الأØاسيس المعبَّر عنها ÙÙŠ الغنائي متصنÙّعةً أو أصيلةً، لكنّها تخضع لقواعد المØاكاة الشعرية، بمعنى أن تكون ممكنة التØÙ‚Ùّق ومختارةً ومكتملة كما هي ÙÙŠ Øقيقتها. ÙˆÙÙŠ هذا السياق، يجب التّذكير بأن المØاكاة ÙÙŠ التراث الكلاسيكي لا يعني التصوير المطابق للأصل، وإنّما هو Øالة من الخيال. وقد وجدنا الÙلاسÙØ© المسلمين يبنون تصوÙّرهم للمØاكاة على مقولة التّخييل، وبالنتيجة على وظائ٠التّعجيب والغرابة واللذّة التي يستثيرها الشعر ÙÙŠ النÙس، Ùأرادوا Ø¨Ù…ØµØ·Ù„Ø Ø§Ù„ØªÙ‘Ø®ÙŠÙŠÙ„ الدلالةَ على معنى المÙØاكاة الشّعرية، ونظروا إليه بوصÙÙ‡ العلّة الصÙّورية للشّعر، وإلى المعاني الّتي يتضمّنها الشّعر بوصÙها علّته المادÙّية. وكان Øازم القرطاجني يرى أنّ “المعاني التي تتعلق بإدراك الØسّ هي التي تدور عليها مقاصد الشعر(…) والمعاني المتعلقة بإدراك الذÙّهن ليس لمقاصد الشّعر Øولها مدارâ€.15 من هنا، أمكننا أن نمرّ من مجرّد إمكانية التعبير الخيالي إلى وضعيّة خيالية أساسية للأØاسيس المعبَّر عنها، وأن Ù†Ùوصل كلَّ قصيدة٠غنائيّة٠إلى النموذج المطمئنّ للØوار الداخلي المأساوي Øتّى نتمكَّن من أن ندخل ÙÙŠ جوهر كلَّ خلق٠غنائيÙÙ‘ ذلك الÙاصل من الخيال الّذي بدونه يستØيل تطبيق Ù…Ùهوم المØاكاة على الشعر الغنائي، كما يرشدنا إلى ذلك جيرار جينيت16.
إنّ المØاكاة والتخييل Ùالتصوير الّذي يتمّ بهما تØيل كلÙّها على عالم الØسÙّيات لا المجرَّدات، ولا يتعلق الأمر بتكرار أو تزييÙ. إنّ كلَّ واØد٠منهما يمكن أن ينتج أثراً جيّداً، بما ÙÙŠ ذلك المØاكيات المطابقة الّتي يمكن أن تنتج نصّاً جميلاً، لكون المØاكاة تستعين هنا بأمور Ù„Ùظية ووزنية وتقÙوية وأسلوبية. ولهذا الاعتبار، رÙبÙطت المØاكاة بوجوه البلاغة والمجاز لتوصيل المعنى وتأدية دلالاته بطراائق خاصّة غير عادية، على مستوى التشكيل والتأثير. Ùهي عمليّة مرتبطة بتقديم المعنى أكثر من ارتباطه بالمعنى Ù†Ùسه.
لن نتتبّع المعنى ÙÙŠ تيمات٠معلومة ومقرّرة سلÙاً، ونختصرها ÙÙŠ نموذج٠لغويÙÙ‘ Ùجّ. Ùالّذي يهمÙÙ‘ØŒ هنا، ليس المعنى، بل طريقة بلوغ المعنى، لأنّ البØØ« عن المعنى بمÙرده مستقلّاً عن طريقة بلوغ المعنى أو عن البنيات، هو البقاء مقدّماً ÙÙŠ مستوى الدّليل. لذلك، علينا أن نسأل: ما هي وضعيّة المعنى ÙÙŠ خضمّ الممارسات الدالّة للغنائية ÙÙŠ الشعر؟ وما قوانين وآليّات بنائه واشتغاله الداخلي؟ وما علاقة المعنى ببنية النصّ، وسياقه وتداوله؟ وغيرها من الأسئلة التي ÙŠÙرضها الوضع الاعتباري للمعنى داخل النصّ الشعري عامة، والغنائي تØديداً. لكنّ تÙكيراً جادّاً ومختلÙاً يجب أن يتجاوز الوضع الّذي ربط المعنى بميتاÙزيقاه، بالتعليم النÙساني للأدب، وأن يبØØ« ÙÙŠ المعنى بالمعنى الذي يكون Ùيه، بالنسبة لشعريّة الخطاب، باثّاً للدلاليّة التي تتجاوز الدليل المعجمي للكلمات عبر آثار تداعيها مع دوالّ أخرى، Ùلا ينÙصل المعنى عن الذّات والإيقاع. إنّها، جميعاً، رهن علاقة تضمين٠متبادلة داخل الخطاب، ومتØوّلة باستمرار.
Ùإذا كنّا، ÙÙŠ مرØلة أولى من البØØ«ØŒ ملزمين ببØØ« طبيعة الغنائية وعناصرها وآثار تشكÙّلها ÙÙŠ الخطاب، Ùإنّ ذلك لغاية إبراز عمل الذّات وهي تخترق اللغة بأقصى عنÙوانها، وتبني المعنى، المعنى المغاير للمعنى المعجمي، Øيث يقول معنى الغنائيّ، بطريقة الخاصّة، أهواءنا ورغباتنا وأشواقنا وخوÙنا وطريقتنا ÙÙŠ طرد هذا الخوÙ.
بهذا المعنى، ÙŠÙÙيدنا Ù…Ùهوم الخطاب ÙÙŠ التعرÙّ٠على أشكال التجاوز التي كانت تØدث داخل مقتضيات النوع الغنائي وأنساقه العامة. ÙˆÙŠØ³Ù…Ø Ù„Ù†Ø§ هذا الشكل من التجاوز بمتابعة الغنائية كـ “شكـل Øياةâ€ØŒ وبرصد صيغ الثبات والتØÙˆÙّل الØادثة ÙÙŠ البنيات أو غيرها. نكون، هنا، بصدد العبور من غنائيّة٠إلى أخرى ÙˆÙÙ‚ استراتيجيّة الخطاب لدى هذا الشاعر أو ذاك، Øيث لا يتمّ تØليل القصيدة إلّا باعتبارها كاشÙةً عن اشتغال المبدأ الأنواعي للغنائية، وعن اشتغال الدوالّ المهيمنة التي تÙجّر شعريّة الغنائيّة.
4. قراءة الغنائيّة: Ù…Øاولة نمذجة
تÙÙيدÙنا هذه المداخل النّظرية، ÙÙŠ هذه اللَّØظة من تطوÙّر شعرنا وما يستتبع ذلك من تبلور أشكال٠متنوّعة ومخصوصة من الغنائيّ، أن نقارب الغنائيّة / الغنائيّات من خلال نمْذجة٠تستوعب مجمل الخصائص والسمات الناظمة لها، بØسب أساليب الكتابة ورؤى العالم والخيارات الجماليّة الّتي ينتهجها شعراء العربيّة، من ذات٠إلى ذات، ومن شرْط٠إلى آخر.
إنّ أيّ Ù…Øاولة نمذجة الغنائية†يقتضي، ÙÙŠ الأعمّ، اكتشا٠البنيات النصّية والأسلوبية والرمزية الّتي تØتضنها، ولا يتمّ ذلك إلّا من خلال تصوÙّر ÙˆØ§Ø¶Ø ÙŠØ³Ù†Ø¯Ù‡Ø§ على تجريبيّة نصّية ذي تمثيلية متنوّعة وعابرة للتاريخ الثقاÙÙŠ للشعر. وأوّل شروط هذا التصوÙّر تجاوز إشكال التعالي الأنواعي المØصور ÙÙŠ شروط النظرية ومÙاهيمها المجرَّدة إلى Ù…Øايثة الموضوع الغنائي من خلال مبدأ التنويع بوصÙÙ‡ مكوÙّناً نصّياً يتمÙÙ‘ تØديده عبر التماثلات النصّية التي ÙŠÙعاد استثمارها وتØويلها وتأويلها ÙÙŠ إطار ما ÙŠÙسمّى بلعبة التكرار والمØاكاة والاقتراضات بين النصوص. ÙŠØ³Ù…Ø Ù„Ù†Ø§ ذلك بالتعرÙّ٠على الغنائية باعتبارها خطاباً يرتبط بأنساق الكتابة ÙˆÙعّاليتها ÙÙŠ التاريخ والثقاÙØ©ØŒ ويدعونا إلى توسيعها وبناء مقتضيات قراءتها ÙˆÙÙ‚ سيرورة نسقيّة Ù€ تأويليّة تستوعبها ÙÙŠ نمذجة معقولة تتÙرّع عنها جملةٌ من التصنيÙيّات الأساسيّة، بØسب الدرجة والنوع:
Ø£.تصنيÙية بØسب معيار الزمن ) قديم، Øديث ØŒ معاصر(.
ب. تصنيÙية بØسب معيار البناء )بسيط، مزدوج ومركّب(.
ج.تصنيÙية بØسب معيار الشكل)عمودي، تÙعيلي، نثري (.
د.تصنيÙية بØسب معيار التلÙّظ )Ù…Øاكاة، تخييل(.
هـ. تصنيÙية بØسب معيار المهيمنات )الإيقاعية، التيماتية، الأسلوبية..(.
Ùˆ. تصنيÙية بØسب معيار التلقّي )التلقائي، الجمالي، التأويلي(.
تظهر التصنيÙيّات متداخلة ومتراكبة ومن الصّعب أن Ù†Ùصل بينها، وقد اعتمدّنا ÙÙŠ وضعها على مبدأ التجانس وخاصية التمثيليّة بالقياس استشكال الكثرة والاختلا٠والتعدّد. ويكون موضوع النمذجة، بالتالي، تعيين العلائق والاختلاÙات التي ÙŠÙظهرها تعدÙّد النص الشعري العربي واختلا٠بنياته.
هكذا، Ù†Øاول أن نقدّم نمذجة أوَّلية تستوعب عدداً من صيغ الغنائية ÙˆØساسيّاتها، منها ما ينضبط للتيمات الأغراضية أو الدلالية )الÙروسية، الطبيعة..(ØŒ ومنها ما ينشغل ببيان الÙروق النوعية الØاصلة بين أكثر من شاعر بصدد موضوع٠بعينه(الØبّ، النÙّزوع الصوÙÙŠ..(ØŒ ومنها ما يشرط المعنى باجتماعيّته) الØرب والسلام، الرثاء، الغزل العذري..(.ومنها ما ÙŠÙقارب النوع الغنائي ÙÙŠ علاقته بأنواع الأدب والمعار٠الأخرى ) القرآن، الأسطورة، الرموز والنماذج الأصلية، تقنيات Ø§Ù„Ù…Ø³Ø±Ø ÙˆØ§Ù„Øكي..(،إلØ. وذلك تبعاً لمقولات مرنة ØªØ³Ù…Ø Ø¨ÙˆØ¶Ø¹ مختل٠تجارب الغنائيّة الكبرى ÙÙŠ الشعر العربي على Ù…Øكّ استراتيجية الخطاب، لمÙقايسة مكوّناتها الأسلوبية والجمالية، ودرجة توتÙّرها بالموضوع الغنائي.
إنّنا، هنا، بصدد الغنائيَّة كواقعة٠جماليّة وتاريخيّة ترتبط بأنساق الكتابة ÙÙŠ غير عصر وثقاÙØ© Ù…Ùعطييْن، وبشروط التلقّي. Ùمقولة الغنائية Ù€ أكثر من غيرها Ù€ تÙظْهر هذا الجوهر الأكثر وضوØاً، العابر للذّوات والأزمنة: أليْس تعتبر أوصا٠الطبيعة ÙÙŠ رØلة الجاهلي غنائيّةً متنوّعة المؤثّر الّذي ÙŠÙعبّر عن جدل الذّات Ù€ الصØراء؟ أيÙّهما أكثر غنائيّةً، رØلتÙÙ‡ أم رØلة أبي نواس ÙÙŠ تجربة اللذّة والانتشاء؟ ألا يأخذ الرثاء ÙÙŠ شعر الخنساء وسْمَ الغنائية السوداء التي تصدر عن عاطÙØ© الØداد، ÙÙŠ Ùقْدها لأخيها صخر؟ أيّهما أكثر تعبيراً عن إيقاع ذاتيّته، الشّنْÙرى ÙÙŠ الالتزام بتجربة اللّا انتماء؟ أم العباس بن الأØÙ†Ù ÙÙŠ انØيازه إلى الشÙاÙيّة Ù„Ù„Ø¨ÙˆØ Ø¹Ù…Ù‘Ø§ يعتمل ÙÙŠ داخله من Ø¬Ø±Ø§Ø Ø§Ù„Øبّ؟ أم أبو تمام ÙÙŠ تجربة العبور إلى الكتابة؟ ثمّ ما الّذي يجمع هؤلاء بأبي الطيب المتنبي الذي تنÙØªØ Ùيه غنائيّته على درْس الØكمة؟ ثمّ أليس للشعر المقطعي Ù„Ù„Ù…ÙˆØ´Ù‘Ø ØºÙ†Ø§Ø¦ÙŠÙ‘Ø© خاصّة ÙÙŠ اØتÙائها بسخاء الطبيعة، وما تجده الذّات داخلها من Ø¥Øساس طاÙØ Ø¨Ø§Ù„Ø¹Ù†Ùوان؟
ÙˆÙÙŠ الشعر الØديث الّذي Ùجّرتْه Øركة الشعر الØرّ، ألا نجد انْبÙثاق غنائيّات جديدة، Øيث تختبر الأنا الغنائيّة معانيَ جديدةً غير معزولة٠عن أشكال تدبيرها للبناء النصّي وأجروميّاته؟ ألمْ تتولّد داخل الأشكال الجديدة من النوع الغنائيّ أبعاداً تستوعب الملØمي والاجتماعي والنÙسي تØت وطأة الإØساس بالزمن، وتمثيلات الخراب والغربة والضياع، ليس Ùقط عند الروّاد من أمثال السياب وأدونيس ومØمود درويش، بل أيضاً لدى Ù…Øمد الماغوط الذي يقدم إلينا من تجربة قصيدة النثر؟
وإذا كانت الغنائيّة العربية قديماً تÙعبّر Ù€ كما رأى جمال الدين بن الشيخ Ù€ عن Ù†Ùسها ÙÙŠ ثلاثة سÙجلّات٠رئيسية: الØب، الطبيعة والÙضائل الإنسانية؛ Ùإنّ ÙÙŠ داخلها تكمن قائمة العواط٠العظيمة التي تمثل قانون الإنسانية المشترك، ولهي Ù†Ùسها تمدّ الشعر العربي الØديث بإلْهام٠لا يستنÙدها، وبأبعاد٠قادرة على Øمْل دلالات جديدة ÙÙŠ سياق اللّغة، التاريخ والمجتمع.هكذا، تظهر الغنائية كأنّها تÙØدّد الجزء الأكبر من الشّعر مهما كانت الأنماط الكتابية المÙتّبعة. وإذا كان النقّاد ودارسو الشعر لم يألوا جهداً لتØديدها، لكنّها دائماً موجودة ÙÙŠ تجارب الشعراء، ودائماً ما تÙلْهم تلك الØركة أو الطاقة التي تستخدمها الكتابة الشعرية بØثاً عن شكل مثالي داخل اللغة، أو عن تلك “الغريزة السماوية†كما يوØÙŠ بها كمْ شاعرٌ، ويÙنْشدها ÙÙŠ ØªØ¨Ø§Ø±ÙŠØ Ø§Ù„Ø£Ø±Ø¶ .
ـــــــــــــ
هوامش
* * عبد اللطي٠الوراري
شاعر وناقد مغربي. صدر له ثلاث مجموعات شعريّة: ــ “لماذا أشهدت علي وعد السØاب2005 Ù…ØŒ Ùˆâ€Ù…ا ÙŠÙشْبه ناياً على آثارهاâ€2007Ù…ØŒ Ùˆâ€ØªØ±ÙŠØ§Ù‚†2009Ù…. وله دراسة نقدية بعنوان: “تØوّلات المعنى ÙÙŠ الشعر العربي†2009Ù…. Øصل على جوائز أدبية ÙÙŠ لبنان والعراق والإمارات العربية المتØدة، وشارك ÙÙŠ ملتقيات أدبية داخل المغرب وخارجه. ينشر نتاجه الأدبي ÙÙŠ عدد من المنابر الثقاÙية العربية الورقية والإلكترونية (القدس العربي، إيلاÙØŒ السÙير، العرب الدولية، نزوى..إلخ).
1.نقلاً عن جيرارجينيت: مدخل لجامع النص، ت. عبدالرØمان أيوب،دار توبقال للنشر،ط.2ØŒ 1986ØŒ ص.70.
2.رشيد ÙŠØياوي: الشعري والنثري، منشورات اتØاد كتاب المغرب،2001،ص.42.
3.أنظر ØµÙ„Ø§Ø Ùضل: أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب، Ø·.1ØŒ 1995ØŒ ص.86.
Ù…Øمد لطÙÙŠ اليوسÙÙŠ: Ø£Ùول الغنائية، الثقاÙÙŠ ضمن جريدة الاتØاد الإماراتية، 24 كانون الأول (ديسمبر) 2009ØŒ ص.9.
4.Ù€ جمال الدين بن الشيخ، الغنائية ÙÙŠ الشعر العربي، ت. عبد اللطي٠الوراري، القدس العربي،السنة السابعة عشرة،ع.5052ØŒ 23 آب/غشت 2005ØŒ ص.10.
5. Hamburger K.,Logique des genres littéraires,seuil,1986,p.243.
6.نقلاً عن: Meschonnic H.,Critique du rythme,Verdier,1982,p.208.
7.هنري ميشونيك، المرجع السابق، ص.113.
8.ريجيس بلاشير: الشعر العربي، Øديقة ملأى بالألغاز، مجلة بيت الشعر ÙÙŠ المغرب، 2003ØŒ ص.93.
9.كمال أبو ديب: جماليات التجاور، دار العلم للملايين، بيروت، ط.1 ،1997، ص.333.
10.جمال الدين بن الشيخ، المرجع السابق، ص.209.
11.ØµÙ„Ø§Ø Ùضل، المرجع السابق، ص.85.
12.هنري ميشونيك:المرجع السابق،ص.152.
13.أرسطو طاليس: Ùنّ الشعر،ت.عبدالرØمن بدوي،دار الثقاÙØ©ØŒ بيروت، Ø·.2ØŒ 1973،ص.6.
14. نقلاً عن جيرارجينيت: مدخل لجامع النص،م.س.،ص.44.
15. Øازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تØقيق Ù…Øمد الØبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981Ù…. ص.29.
16.جيرار جينيت: مدخل لجامع النص،م.س.،ص.45.